Image Not Found

نظام الملاحة الخاطئ!

محمد رضا اللواتي

مسندم.. المحافظة التي تشهد الإشراقة الأولى لبزوغ الخيوط الرفيعة لأشعة الشمس الذهبية في العالم العربي كله.. عندما حلَّقت الطائرة التابعة لخطوط الطيران العُماني فوق شِبه الجزيرة العُمانية هذه، لم يكن مُمكِنا إلا التحديق فحسب؛ فالمنظر كان بديعا للغاية.

أعضاء الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء، الذين كانوا على متنها في مهمة رسمية للمشاركة في الفعاليات المصاحبة لافتتاح فرع الجمعية فيها، لم يَكُن بوسعهم إلا الاهتمام فقط بما تُشاهده العين من منظر؛ فشخصيًّا، لم أستطع أن أقوم بفعل شيء غير التحديق، والتحديق فحسب.

فلقد بدتْ شبه الجزيرة -التي تحيط بها المياه من ثلاث جهات- وكأنها لوحة بالأزرق والأخضر والأسود؛ فالجبال السوداء من حولها، والتي ترتفع بما يزيد عن ألفي متر، كانت قد غرست أقدامها في البحر الذي بدا وكأنه بساط حف به الأفق الأزرق فأحاله إلى أخضر!

هل هذا التمازج في الألوان حقيقي، أم يبدو للعين وهي على ذلك الارتفاع الكبير؟

كم كان التفاف الملاح بالطائرة في نصف دورة مذهلا، وكأنه قد قرر أن يهبط بالطائرة على مدرج يتألف من قطع من الموج الناشف بفعل وهج الشمس، ذكرني ذلك بالهبوط المرعب لطائرة كاريداس بالصحفي “تان تان” وزملائه في رحلة 714 إلى سيدني، كما تحكيه المغامرة الممتعة تلك. لقد كانت الرحلة في تلك القصة -التي صممها المبدع البلجيكي هيرجيه- عبارة عن حادثة اختطاف طائرة، ورحلتنا هذه كانت إلى أرض عمانية تليدة تتعرض أيضا لأشكال من “الاختطافات” الناعمة بين الفينة والأخرى! فتارة تختفي من الخرائط، وأخرى تظهر بشكل لا تبدو عليه بأنها جيب عُماني، رغم أنها كذلك بامتياز، تحيط بها مساحات من الأراضي التي كانت “عمانية” فيما مضى من التاريخ. وعندما ينطلق بك المركب يمخر عباب الموج بين جزرها التي عد “الاتحاد الدولي لصون الطبيعة” بعضها ضمن أهم محميات الحياة الفطرية في العالم، تتاح لك الفرصة عن كثب لمشاهدة المعبر البحري الذي يمر عبره 90% من نفط الخليج إلى العالم. إنه مضيق “هرمز” الذي يشاطر العمانيون الإيرانيين في إدارته. العمانيون اعتنوا بالتجارة عبر هذا المضيق حتى تأثرت بعض لهجاتهم المحلية -كمزار مثلا- بمجموعة من اللهجات كالفارسية والهندية والعربية والبرتغالية والبلوشية والإنجليزية والتركية وربما غيرها، وكأن خليط التجَّار الذين مروا على هذه المنطقة عبر سني التاريخ ودهور القرون، صبغوا لهجة الناس فيها بكل هذا التنوع من اللغات، فباتت الوحيدة والفريدة بين اللهجات بهذا النحو من التنوع. ومع ذلك، فلم يخرجها هذا الانفراد عن أصولها العمانية، كما لم يختلط الأمر على مؤرِّخي أصول البلدان؛ إذ ذكروا بوضوح أن انتماءها الحقيقي هو للأم “عُمان”، فقد نقلت مكية الكمزارية في مقال نشرته لها مجلة “شرق غرب” العمانية، في عددها رقم 18، الصادر في نوفمبر من العام 2018م، عن ياقوت الحموي في “معجم البلدان” يقول إنَّ “كمزار بُليدة من نواحي عُمان”.

وكتب الدكتور صالح الربخي في مقال نشرته له جريدة “الوطن”، بتاريخ 2 فبراير عام 2014م، يقول: إن من هذه الأرض العمانية التليدة تحرك وفد فيهم جعفر العتكي لزيارة يثرب إبان وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك لتقديم التعزية في المصاب الجلل، ومن هذه الأرض تحرك صبيعة الصليمي الذي كان زعيم قومه في دبا متوجِّها إلى يثرب ليطالب الخلافة آنذاك برد ما وقع في قبضة عاملها من سبي، ظنا من عاملها آنذاك أن دبا قد ارتدت عن الإسلام. ومن هذه الأرض كان كعب بن سوار -برواية الربخي- الذي عيَّنته الخلافة الإسلامية قاضيا في العراق.

أمَّا “ندوة مسندم في ذاكرة التاريخ العُماني”، فقد عَرَضت 150 وثيقة ومجموعة من الصور التاريخية والخرائط والمحفوظات التي تؤكد انتماءها الأصيل. وكان الدكتور سعيد الهاشمي في ورقته بعنوان “علاقة مسندم السياسية بساحل عمان الشمالي ومنطقة الشميلية” قد استعرض كيف حافظ العمانييون هناك على هويتهم، رغم المغريات السياسية التي عرضت عليهم من قبل جيرانهم.

لا ينبغي أن ندير الظهر للمصادر الرومانية القديمة التي ذكرت أسماء لمسندم، هي ذات الأسماء التي أطلقها السومريون على عُمان، أعني: “مجان”، أو أن نتجاهل ما في الأثر من أن اليونانيين كانوا قد أطلقوا على مسندم “عمانا”، وغيرها من الشواهد الحاكية عن الهوية والانتماء.

تتطلَّع المحافظة بكل شوق للمشاريع التي يبدو أن الجهود عاكفة على تنفيذها وإتمامها في وقتها؛ فشركة “التسنيم” قد بدأت ببناء المستشفى المرجعي، و”عمران” تنتظر ظهور معالم مشروع طريق “خصب-ليما-دبا” حتى تباشر بناء منتجع سياحي كبير، كما أن شركة “أساس” بصدد تنفيذ مجموعة أخرى من المشاريع السياحية، وشركة “الزهراء” أيضا بصدد البدء بمشروع سياحي.

وبحسب إستراتيجية “مسندم 2040″، فهناك تطوير لنحو 60 موقعا سياحيا لأجل رفع عدد السياح إلى مليون و200 ألف، وتطوير لموانئ الصيد خصوصا ميناء دبا، ومخطط لإنشاء منطقة صناعية بولاية خصب، وتطوير مينائها، كما تتطلع وزارة الزراعة والثروة السمكية لإقامة مشاريه الاستزراع السمكي هناك.

بارك الله في الجهود المبذولة، ولا يسعنا إلا أن ندعو أن لا تصيب هذه الجهود الإعياء المبكر؛ فتتراخى الإرادات وتتأخر المشاريع، فيأتي 2040 ولا نرى في المواقع المشار إليها إلا بعض الشجيرات وبعض المارة!

——————————–

يقولون إنَّ نظام الملاحة المتوفِّر في بعض موديلات “ليكزس 350” يشير إلى مسندم، ولكن في موقع غير موقعها الحقيقي من خارطة السلطنة! فإنْ صح ذلك، نرجو أن لا يحاول الزوار الكرام الوصول إليها عبر ذلك النظام الملاحي “المُعدل”، خوفا من أن يبلغوا “متاهة اللامكان”؛ إذ لا تزال مسندم تقبع على أرض “عُمان”، وستظل قابعة في مكانها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

الرؤية